موسم تقطير زهور البرتقال في المغرب

fleurs
0

موسم تقطير زهور البرتقال في المغرب: عبق الذاكرة وعراقة التقاليد





مع بداية فصل الربيع، وتحديدًا في شهري مارس وأبريل، تبدأ في مناطق عديدة من المغرب طقوس مميزة ومفعمة بالعبق، حيث يحل موسم تقطير زهور البرتقال، والمعروفة محليًا بـ"الزهر" أو "الفلّ"، وهو تقليد راسخ في الثقافة المغربية، يحمل في طياته أبعادًا اجتماعية وثقافية وعطرية لا تضاهى.

في هذا الموسم، تمتزج رائحة الزهر في الأزقة والبيوت والأسواق، فتغمر القلوب بالحنين، وتوقظ الذكريات. لا يتعلق الأمر فقط بصناعة ماء الزهر المعروف، بل هو طقس من طقوس الحياة المغربية، تعيشه النساء خاصةً بكل تفاصيله، من القطف إلى الغلي إلى التوزيع والتخزين.


الزهر: زهرة برتقالية بروح مغربية

زهرة البرتقال، أو "الزهر"، تُستخرج من شجرة البرتقال المرّ (النارنج)، وتتميز بعطرها القوي والنقي. في المغرب، تنمو هذه الأشجار بكثرة في مدن مثل فاس، مكناس، مراكش، تازة، تطوان، وشفشاون، وتزين الشوارع والحدائق، ولكنها تتحول في فصل الربيع إلى مصدر نشاط بيتي وتجاري مهم.

يبدأ قطف الزهر في ساعات الصباح الأولى، حين تكون الزهرة محتفظة بأقصى درجات عطرها. النساء غالبًا ما يشاركن في هذه العملية، حاملات السلال والسلط الصغيرة، وهن يقطفن الزهر بدقة وحنان، كما لو أنهن يقطفن الذكريات.


تقطير الزهر: طقس مغربي أصيل

عملية تقطير الزهر تتم غالبًا بطريقة تقليدية، باستخدام الطنجرة النحاسية (القدر) و"القرعة" الزجاجية التي تجمع البخار المتكثف بعد غليان الزهر. يتم ملء الطنجرة بالماء والزهور، ثم تُغلق بإحكام وتوضع على نار هادئة لساعات.

خلال الغلي، يتبخر الماء المحمّل بعطر الزهر، ويتكثف في أنبوب يمر عبر الماء البارد، ليتم تجميعه في النهاية على شكل ماء الزهر. هذا السائل العطري يُعد من الكنوز المغربية، ويُستخدم بكثرة في الطبخ، التجميل، والطب التقليدي.

في بعض البيوت، خاصة في المناطق العريقة مثل فاس، تُنظم جلسات تقطير جماعية، حيث تجتمع النساء ويتبادلن القصص والنصائح، في أجواء مليئة بالبهجة والتعاون.



ماء الزهر: استخدامات متعددة في الحياة اليومية

يُعتبر ماء الزهر أحد أقدم المكونات الطبيعية التي استخدمها المغاربة في حياتهم اليومية، فهو أكثر من مجرد عطر:

في المطبخ المغربي: يُضاف ماء الزهر إلى الحلويات مثل كعب الغزال، الشباكية، والفقاص، ويُستخدم كذلك في تعطير الشاي، وعجينة الخبز في بعض المناسبات.

في الطقوس والمناسبات: يُرش ماء الزهر في الأعراس والاحتفالات الدينية لاستقبال الضيوف، ويُستعمل كذلك في غسل الموتى في طقس يحترم الروح ويكرّمها.

في التجميل والعناية بالبشرة: النساء المغربيات يستعملنه كتونر طبيعي للوجه، فهو يرطب وينعش البشرة ويمنحها نضارة.

في الطب التقليدي: يُستخدم لتهدئة الأعصاب، وعلاج بعض اضطرابات المعدة، بفضل خصائصه المهدئة.

  • غريبة اللوز بالزهر


الزهر والموروث الثقافي المغربي

لا يمكن الحديث عن الزهر دون التطرق إلى مكانته في الذاكرة الجماعية. رائحته تذكر بأيام الطفولة، وبالبيوت القديمة التي تعبق جدرانها بعطر الأمهات والجدات. هو جزء من "الديكور الحي" للمغرب، ومن طقوس الضيافة، والحنان، والفرح.

حتى في الأغاني الشعبية والموسيقى الأندلسية، نجد إشارات متكررة إلى الزهر وعطره. ففي الأغنية المغربية، كثيرًا ما يُستعمل "الزهر" رمزًا للحب، النعومة، والوفاء.


الجانب الاقتصادي والتجاري

مع ازدياد الطلب على المنتجات الطبيعية، بدأ ماء الزهر المغربي يحظى باهتمام أكبر في الأسواق العالمية. بعض التعاونيات النسائية، خاصة في شمال المغرب، بدأت تصدّر هذا المنتج بعد تعبئته وتغليفه بطريقة عصرية، دون أن تفقده أصالته.

ويتم كذلك تصنيع منتجات تجميلية طبيعية أساسها الزهر، مثل الكريمات، الزيوت، الصابون، والعطور، ما يفتح آفاقًا اقتصادية مهمة، خاصة للنساء في القرى.

تحديات العصرنة والحفاظ على التراث

رغم هذا الازدهار، فإن تقطير الزهر يواجه بعض التحديات. فمن جهة، تحاول بعض الشركات تسويق ماء الزهر الصناعي، ما يهدد جودة وتقاليد المنتج الطبيعي. ومن جهة أخرى، هناك تراجع في ممارسة التقطير البيتي في المدن بسبب نمط الحياة السريع.

لكن رغم ذلك، لا تزال العائلات المغربية تحرص على تقطير الزهر كل سنة، ولو بكميات بسيطة، حفاظًا على هذا الطقس الروحي الذي يتجاوز كونه مجرد عملية استخراج عطر، إلى كونه رابطًا بين الأجيال.


موسم تقطير زهور البرتقال في المغرب ليس مجرد وقت لصنع ماء عطري، بل هو مهرجان للحواس، واحتفال بالهوية والتراث. هو زمن تتلاقى فيه الأمهات والجدات، تتناقل فيه الأسر طقوسها، وتُصاغ فيه الذكريات. في كل قطرة ماء زهر قصة، وفي كل عبق حنين، وفي كل بيت مغربي تُقطر فيه الزهور، تُقطر معه الحياة.



إرسال تعليق

0تعليقات

إرسال تعليق (0)